الرئيسية
ربما يتساءل البعض: لماذا تكون نماذج (عبقرية الاهتمام) من الغرب في الغالب.. ولماذا لا تكون الشواهد من التاريخ الإسلامي أو من البيئة العربية المعاصرة..؟!وأود أن يعلم القارىء الكريم أن الهدف من إبراز ظاهرة الإبداع خارج الأطواق المدرسية هو الإسهام في تقويض «..وثنية الشهادات..» ولا يتحقق ذلك إلا حين تكون الشواهد الإبداعية من الغرب لأن التعليم النظامي بمراحله ونظمه وشهاداته مستورد من الغرب، فنحن نقلنا الشكليات وأغفلنا الحقيقة الأكثر بروزاً، وهي أن الغرب الذي اخترع نظام التعليم وابتكر الشهادات الأكاديمية، هو نفسه الغرب الذي يجعل الإنجاز هو المحك الحقيقي للتقويم. كما أنه يعتبر الإبداع سابقاً للتعليم ومرافقاً له، ينقده ويعيد النظر فيه ويدخل التعديلات المستمرة في مضمونه..إن نقطة الانطلاق في الغرب هي المواءمة المستمرة بين الإبداع والاستيعاب. فالغرب ينطلق من حقيقة أن التعليم النظامي يتجه إليه كل الناشئين وفيهم الكثيرون من محدودي الإدراك، ومعظمهم كما هو معروف من متوسطي الذكاء، وأغلبهم ليس لديهم رغبة ذاتية في المعرفة، ومع ذلك يستطيع كل متوسطي الذكاء مواصلة التعليم حتى النهاية، بما في ذلك الحصول على الدكتوراه. فالتعليم الحديث هو بنظامه ومناهجه موضوع للمتوسطين وليس للمتفوقين وحتى التفوق الدراسي لا يدل على الاستعداد الإبداعي، لأن التفوق الدراسي يدل على قابلية الانصياع. فهو دلالة الاتباع وليس دليلاً على الأصالة الذاتية والإبداع، فهو يقوم في الغالب على الحفظ وحصر النفس على المقررات المدرسية والالتزام الحرفي بما يريد المعلمون. كما أنه يدل على أن الشخص ليست له اهتمامات ذاتية تنبع من ذاته، وإنما يتبع اهتمامات غيره فليس له اهتمامات فكرية أو ثقافية عامة، وليس عنده تساؤلات خاصة تفرض عليه البحث الذاتي، وإنما هو وعاء يتم حشوه أو آلة يتم تحريكها. فهو منفعل لا فاعل، مما يكرّس ضيق الأفق ويرسخ عادة التقليد ويعوق نشوء روح الابتكار. ثم إن التعليم يقدّم للدارسين ما أنجزه المبدعون. فالدارسون يتلقون ما هو جاهز.أما أن يصبحوا من المبدعين أو أن يصيروا من منتجي العلم أو الفكر أو الفن فهذا هدف يتجاوز نطاق النظام المدرسي. فالإبداع منذ بدء التاريخ وإلى أن تقوم الساعة هو من إنجاز القلة المبدعة التي لا تحكمها الأطواق المدرسية ولا تحددها الأوضاع القائمة، فالقدرة الإبداعية لا يمكن تلقينها.لذلك فإنه حين أشار الناقد الإنجليزي جيرالد مور في كتابه (سبعة أدباء من أفريقيا) إلى أن الروائي النيجيري المبدع آموس توتولا لم يكمل حتى المرحلة الابتدائية في الدراسة النظامية.. أعاد تفوقه إلى أنه لم يخضع للبرمجة المدرسية. فهو يعتقد أنه لو واصل الدراسة فإن: «... موهبة الثقة الثمينة التي يتمتع بها سوف تتبخر في عملية التعليم الطويلة...» ثم يتساءل الناقد الإنجليزي: «... ألم تكن حياته الخاصة الخيالية إلى حد بعيد لتتخطى سباق الفئران الأكاديمي...؟! وهي حياة تطابق أساساً حياة رجل تُرِك وشأنه..».ويرى جيرالد مور أن هذا الذي لا يحمل أي شهادة دراسية آموس توتولا: «... كاتب ذو عبقرية فريدة لا يرقى إليها الشك...» ويذكر أن الشاعر الإنجليزي دايلان توماس حين قرأ إحدى روايات توتولا استحوذت على لبّه فوصفها بأنها: «... مزدحمة ساحرة...» وبأنه: «... ليس ثمة شيء شديد العظمة أو شديد التفاهة يمكن التقليل من شأنه في هذه القصة الطويلة...» وكأن هذا الكاتب الذي لم يكمل في التعليم الشكلي حتى المرحلة الابتدائية قد استطاع بتثقيفه لنفسه وبموهبته السخية وخياله الواسع ومرانه الطويل ونشاطه الموصول أن يقيم هذا البناء الفني الرائع، وأن يضفي الأهمية الآسرة حتى على الأشياء التافهة..ويضيف مور بأن توتولا: «... صاحب أسلوب ممتاز.. وفيه ثقة خلاّقة هائلة وموهبة في المشاركة الخيالية التامة فيما يفعل، وقدرة على خلط الرعب والكوميديا داخل مشهد واحد...» ولأنه لم يخضع للتشكيل المدرسي فقد شكّل نفسه وصاغته الحياة: «... لم يحصل من التعليم إلا على بضع سنوات متقطعة.. ثم أصبح حداد نحاس وكان يعمل وقت ظهور كتبه كساعي بريد.. ومن هنا أعاد صب المادة والشكل والأسلوب لنفسه على نحو جديد..».إن هذه الحقيقة تعتبر من البداهات في المجتمعات المتقدمة وهي شديدة الوضوح لكل الناس هناك، لذلك لا يحتاجون إلى من يذكّرهم بها. أما المجتمعات العربية وغيرها من مجتمعات العالم الثالث فإن التعليم النظامي بمراحله وشهاداته وبشكله القائم لم يكن أصلاً من إنتاجها، وإنما استوردته من المجتمعات الأوروبية والأمريكية دون أن تدرك مغزاه إدراكاً كاملاً، وبسبب هذه السطحية بالغت في تضخيم قيمة الشهادات الدراسية وصارت تتوقع الإبداع والمهارات من كل حامل شهادة، بينما تتجاهل الإبداعات خارج سلطة الشهادات وتثبّط عزائم المبدعين الذين لا يحملون هذه الشعارات المزركشة. وبذلك أزهَقت المقومات الحقيقية للإبداع كما تجاهلت الحقيقة الأخرى التي تؤكد أن التعليم يعطي المعلومات فقط، وأن الإبداع في العلم والعمل هو بمنز لة مراجعة وتجاوز للمعلومات المعطاة في المدارس والجامعات. لذلك فهو إنجاز القلة، وأن هذه القلة المبدعة لا تخضع للمقاييس المدرسية الموضوعة للمتلقين وليس للمبدعين وأن الإبداع لا يمكن تعليمه...هذه حقيقة ضخمة ينبغي أن نعيها تمام الوعي وأن نتعامل معها بما تقتضيه لنفسح المجال أمام المبدعين ونفتح كل الأبواب والنوافذ، أما المتميزون، فلا نخلط بين القدرة الإبداعية المتوهجة والقدرة على الحفظ والترديد والتلقي..كما أنه لابد من إدراك أن الاعتراف بهذه الحقيقة الضخمة لا يقلل من شأن التعليم النظامي، وإنما يقتضي ألا نؤخر من يستحق التقديم أو نقدّم من يستحق التأخير، وإنما نضع الناس حيث وضعتهم مواهبهم واهتماماتهم وجهودهم..إن التعليم النظامي هو الطريق الوحيد لتعليم المجتمع كله ورفع مستواه العقلي وتهيئة كل أفراده للاضطلاع بمسؤوليات الأداء في كافة المجالات، لكن لا توجد جامعة في الدنيا تدعي أنها تقوم بتخريج المبدعين. فالإبداع إنجاز فردي يتجاوز ماتم تلقينه، فالمتميزون يبقون متميزين بالتعليم النظامي وبدونه..
» رمضان مبارك
» اقتراح للادارة !!
» سلام خاص الى استاذي الغالي
» نظائر الكلور
» الصداقة الحقيقية
» الابتسامة وفوائدها
» العمليات الكيميائية لاستخلاص غاز الكلور
» هل تعلم