سيدنا عمر بن الخطاب : تألق فهمه وحدة ذهنه وصدق فراسته
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
جانبٍ مهم من جوانب شخصية الفاروق عمر رضي الله عنه ، ألا وهو تألُّق ذهنه ، وحدّة فهمه ، وصدق فراسته .
والمؤمن أيها الإخوة بشكلٍ أو بآخر يمثِّل هذا الدين ، ولا يستطيع المؤمن نشرَ هذا الحق إلا إذا كان على جانبٍ من الإدراك العميق ، والفهم الحاد ، لذلك : " ما اتخذ الله ولياً جاهلاً ، ولو اتخذه لعلَّمه " .
المؤمن لديه حجة ، عنده منطق ، معه دليل ، معه برهان ، إدراكه دقيق ، فهمه عميق ، تصوُّره صحيح ، رؤيته ثاقبة ، قراره حكيم ، هذا الجانب العقلي للمؤمن ، لأن المؤمن كما تعلمون شخصيةٌ متميِّزة ، فيه جانب نفسي أخلاقي ، وفيه جانب سلوكي بنَّاء ، وفيه جانب عقلي دقيق .
فسيدنا عمر مثَّل شخصيَّته ، أو جانبه الإدراكي بكلمةٍ رائعة ، فقال : "لست بالخِب ، ولا الخَبُّ يخدعني " ، يعني ذكاؤه ليس شيطانياً ، ولا عدوانياً ، ولا استغلالياً ، ولا انتهازياً ، ولا وصولياً ، هناك أذكياء يستغلون ذكاءهم لمآربهم الشخصية ، ولمكاسبهم الدنيوية ، فذكاؤه ليس عدوانيًّا ، ولا ذكاءً شيطانيًّا ، ولا ذكاءً انتهازيًّا ، ولا ذكاءً وصوليًّا ، ولا ذكاءً مبنيًّا على المصلحة ، ولكنه ذكاءٌ رحماني ، فهو ليس من الغباء حيث يخدعه الخِب ، وليس من الخُبث حيث يخدع ، لا يَخْدَع ولا يُخْدَع ، ليس عدوانياً فلا يَخْدَع ، وليس ساذجاً فيُخْدَع ، هذا الموقف المثالي ، فما من عبارةٍ أدق وأوضح من هذه العبارة "لست بالخِب ولا الخِبُّ يخدعني" ، وينبغي على كل مؤمنْ أن يكون في هذا المستوى .
السيدة عائشـة رضي الله عنها وصفته مرةً فقالت : " كان والله أحوزياً( أي سريع الإدراك حاد الخاطر ) نسيج وحده ، قد أعدَّ للأمور أقرانها" ، أحياناً يجد الإنسان نفسَه في ظرف ، وما هيّأ نفسه لهذا الظرف ، ما أعدَّ لهذا الظرف ما يكافئُه ، فالموفَّقون في الحياة ، المتفوقون ، العقلاء ، الأفذاذ هم الذين يعدّون للأشياء أقرانها ، للملمات ما يكافئُها ، للمستقبل ما يغطيه ، إذاً السيدة عائشة وصفته ، فقالت : " كان والله أحوزياً ، نسيج وحده ، قد أعدَّ للأمور أقرانها" .
ويقول عنه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : " كان عمر أعلمنا بكتاب الله وأفقهنا في دين الله"، سيدنا عمر قمة المجتمع الإسلامي ؛ فهو حاكم ، وفي الوقت نفسه كان أعلمنا بكتاب الله ، وأفقهنا في دين الله ، أما النبي عليه الصلاة والسلام قال : " إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبِه " .
هذه شهادة ، إذا شهد لك النبي فهذه أعظم شهادة ، عندما يكون الإنسان مؤمنًا ، ويكون تلميذًا للنبي عليه الصلاة والسلام فهذه أكبر شهادة هذه يحوزها .
عندنا في السيرة شيء اسمه موافقات عمر ، فكان سيدنا عمر يتمنى شيئًا فينزل به قرآن ، فتمنياته أوّلاً ، واستشرافه لبعض الأشياء ، ثم يأتي الوحي ليؤكدها ، وهذه من خصائص هذا الصحابي الجليل ، لذلك قالوا : سيدنا عمر له موافقات ، فمرة قال للنبي عليه الصلاة والسلام : " يا رسول الله أليس هذا مقام إبراهيم أبينا ؟ قال : نعم ، قال : لو اتخذناه مصلىً ، فما هي إلا أيام حتى جاء الوحي بالآية الكريمة :
( سورة : البقرة آية " 125 " )
كذلك تمنى أن يأتي تشريع ينظم علاقة الأبناء بالآباء في الدخول على آبائهم وأمهاتهم ، فنزلت الآيات تبيِّن أدب الابن في الدخول على أبيه وأمه :
( سورة : النور : آية " 58 " )
فكلما تمنى شيئاً يأتي الوحي مؤكداً له ، هذا من صدقه مع الله ومن شدة إخلاصه ، من أجل هذا قال النبي عليه الصلاة والسلام :" إني لا أدري مقامي فيكم فاقتدوا باللذين من بعدي أبي بكرٍ وعمر " .
أي أصبح كلام سيدنا عمـر واجتهاده من السنة ، والحدـيث الأشهر من ذلك :" عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي الهادين المهديين عضوا عليها بالنواجذ "
إذاً إذا اجتهد سيدنا عمـر اجتهادًا ، فاجتهاده هذا يضاف إلى السنة ، وملحـق بها ، لعظم هذا الصحابي الجليل .
كان إدراكه عميقًا جداً قال : " ما من أحدٍ عنده نعمة إلا وجدت له حاسداً ، ولو كان المرء أقوم من القِدح لوجدت له غامزاً " ، أي من المستحيل ألاّ يكون لك خصم ، لو كان المرء أقوم من القِدح أي السهم ، فالمستقيم استقامة تامة ، لو وضعته على عينك لا ترى اعوجاجا ، المستقيم استقامة تامة لو كان المرء أقوم من القدح لوجدت له غامزاً يطعن فيه ، ومن يَبخَس فيه ، فأنت وطِّن نفسك ، وارتحْ ، فلا بدَّ لك من خصومة ، لا بد لك من حُسَّاد ، حتى إن سيدنا موسى في المناجاة قال : يا ربي لا تبقي لي عدواً قال له : هذه ليست لي يا موسى ، أفليس أعداء ؟ فتطمع ألاّ يكون لك أي عدو ، هذا الطمع في غير محله ، لك عدو ولك خصم ولك حاسد ولك مبغض ولك من يطعن بعلمك ، ولك من يبخِّس عملك ولك من يستهزئ بكلامك هذا شيء طبيعي جداً من أجل أن يكثر أجرك، واعلمْ أن النبي له أعداء .
وله ميزان آخر قال:" أحبكم إلينا قبل أن نراكم أحسنكم سيرةً ، فإذا تكلمتم فأبينكم منطقاً ، فإذا اختبرناكم فأحسنكم فعلاً".
وكائن ترى من صامتٍ لك معجبٍ زيادته أو نقصه في التـــــكلُّمِ
والقصة المشهورة جداً عن سيدنا عمر ، أنه طلب من شخص أن يأتي بمن يعرفه ، قال له : " يا هذا إني لا أعرفك ، ولكنه دقيق جداً ، قال : ولا يضرك أني لا أعرفك " ، مقامك عند الله محفوظ .
ولما جاءه رسول من القادسية يخبره أنَّ خلقًا كثيرًا مات فيها قال له : من هم؟ قال له : إنك لا تعرفهم ، فبكى عمر ، وقال : وما ضرهم أني لا أعرفهم إذا كان الله يعرفهم" ، فمن أنا ؟!.
فلما قال للإنسان : " يا هذا إني لا أعرفك قال : ولا يضرك أني لا أعرفك" .
أنا عبد مثلك ، فلا أقدِّم ، ولا أؤخِّر ، قد تكون أفضل مني ، فإذا لم تعرف إنسانًا فهذا لا يقدح في مكانته ، وإذا دخلت إلى مكان ، ولم يعرفوك ، فلا تقل : لم يعرفوني ، ولم يوجهوني ، ليست هذه مشكلة ، مقامك عند الله محفوظ ، فالأتقياء الأخفياء أثنى عليهم النبي : الذين إذا حضروا لم يعرفوا، وإذا غابوا لم يفتقدوا ، قال له : "يا هذا إني لا أعرفك ، ولا يضرك أني لا أعرفك"، ائت بمن يعرفك ، فجاءه بشخص قال له : هل تعرفه ؟ قال له : نعم أعرفه ، قال له : هل سافرت معه؟ قال له : لا ، هل جاورته ؟ قال له : لا ، هل حاككته بالدرهم والدينار؟ قال له : لا ، قال له : أنت لا تعرفه".
فالإنسان يُعرف بالسفر ، وسمِّي السفر سفراً لأنه يسفر عن أخلاق الرجال ، يُعرف بالتعامل المادي ، يُعرف بالمجاورة ، أما بالشكل ، وبالحديث ، وبالمظهر العام ، فهذا لا يكفي لمعرفة الرجل .
مرة تحدث أصحابه أمامه عن رجل وأثنوا عليه ثناءً كبيراً ، وممّا أثنوا عليه أنه لا يعرف الشر أبداً ، فقال عمر : ذلك أجدر أن يقع فيه .
يقول لك : مثل المصحف المطوي ، إذا كان واحد يجهل الشر فهو أقرب الناس للوقوع فيه ، أنا أريد شخصًا يعرف الشر ، ولا يفعله ، فهو محصن ، فلما قالوا : إنه لا يعرف الشر أبداً ، قال عمر : ذلك أجدر أن يقع فيه ، أريد إنساناً يعرف الشرَّين ، ويفرق بينهما ، ويختار أهونهما ".
له رأي دقيق جداً ، مرة سل : أيهما أفضل ؛ رجل لا يأثم ، لأن نفسه لا تشتهي الإثم ، أم رجل تشتهي نفسه الإثم ، ولا يأثم ؟ فسيدنا عمر رأيه أنّ الذين يشتهون المعصية ، ولا يعملون بها هم الأفضل ، معنى ذلك أن الإنسان إذا كان في ريعان الشباب ، وعملُه في الأسواق ، وغَضَّ بصره فهذا له أجر كبير ، من السهل أن تعتزل الناس ، وأن تقعد في بيت في رأس الجبل ، ليس لك أيَّة مخالفة ، لكن أن يكون لك عمل في سوق تجاري : صِدْق ، أمانة ، استقامة ، غضُّ بصر ، الصلاة في وقتها ، فهذه بطولة ، من البطولة أن تقيم أمر الله وأنت تشتهي المعصية ، هذه المجاهدة ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام :" رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ، جهاد النفس والهوى".
أحياناً كان يستفَتى في قضيـة يعطي فيها رأيـه ، وحين استفتي في قضية مشابهة أعطي رأيًا آخر، فلما قيل له : إن لك في هذا اجتهادين متناقضين ، فقال سيدنا عمر : ذاك على ما قضينا ، وهذا على ما نقضي ، أي أن المشكلة واحدة ، ولكن لها ظروف مختلفة .
له اجتهاد دقيق جداً في سهم المؤلفة قلوبهم الذي يُؤدَّى من الزكاة ، فقد أبطله في حياته ، الإسلام كان ضعيفًا ، وكان بحاجة إلى تأييد الأقوياء ، فكان هؤلاء الذين سماهم القرآنُ المؤلفةَ قلوبهم نعطيهم ، والإسلام ضعيف ، أما وقد نصر الله الإسلام ، وقويتْ شكيمته ، وأصبح قوياً ، فالآن هذا السهم ليس له وجود ، هذا اجتهاد سيدنا عمر ، قال : " لقد كان رسول الله يعطيهم ، والإسلام يومئذٍ ضعيف ، أما اليوم فقد أعز الله دينه ، وأعلى كلمته ، فمن شاء فليؤمن ، ومن شاء فليكفر ، ولا يتسع هذا الدين إلا من يدخله راغباً مؤمنا " ، فمع ورعه الشديد ، مع تقيده الشديد بالنص كان جريئاً في اجتهاده .
يروي البخاري ومسلم رضي الله عنها أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال :" بينما أنا نائمٌ إذ رأيت قدحاً ، أوتيت به فيه لبن ، فشربت منه حتى إني لأرى الريَّ يجري في أظفاري ( أي أن كل جسمه ارتوى بهذا اللبن ) ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب " .
زاد من الكأس شيء فأعطاه سيدَنا عمر ، فقال أصحاب النبي عليهم رضوان الله : فماذا أَوَلْتَه يا رسول الله ؟ قال : العلم ، هذا اللبن أَوَّلَه النبي بالعلم ، لأنه غذاء الإنسان ، فضلت فضلة من القَدح فأعطاها سيدَنا عمر ، هذا تأويل النبي للرؤيا التى رآها ، أي أن عمر عالم .
نحن نعرفه شديدًا جداً ، ولكن بقدر ما هو شديد فهو رحيم ، قال : جيء بمسلم ارتكب ما يوجب إقامة الحد عليه ، ويشهد ثلاثةٌ شهادةً تدينه ، ولم يبق إلا شهادة الرابع ، ثم يصير الحد عقاباً محتوماً ، يرسل عمر ، ويستدعي الشاهد الرابع ، ولا يكاد يراه مقبلاً حتى تأخذه رهبة ، وحينما تقترب خطاه ينظر أمير المؤمنين ويقول : أرى رجلاً أرجو ألا يفضح الله به واحداً من المسلمين ، يقدم الشاهد فيقول لعمر : لم أرَ شيئاً يوجب الحد ، يتنفس عمر الصعداء ، ويقول : الحمد لله رب العالمين .
مرة جاءه رجل يحمل بشرى ، أو ظنها بشرى ، قال له : رأيت فلاناً وفلانةً يتعانقان وراء النخيل ، فيمسك عمر بتلابيبه ، ويعلوه بمخفقته ، ويقول له بعد أن وسعه ضرباً : هلا سترت عليه، ورجوت له التوبة ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من ستر على أخيه ستره الله في الدنيا والآخرة .
كان سيدنا عمر يقول : " هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أخاً لكم زلَّ زلةً فسددوه ، كونوا عوناً له على الشيطان ، ولا تكونوا عوناً للشيطان عليه"
أنت وظيفتك أنْ تستر ، وظيفتك أن تخفف عن المؤمنين ، وظيفتك ألا تتبع عوراتهم .
له قول شهير قال :"لأن أُعَطِّل الحدود في الشبهات خيرٌ من أن أقيمها في الشبهات".
هناك أشخاص أصلحهم الله يظنون خطأً أن سيدنا عمر عطّل حدَّ قطع يد السارق ، لا إنه لم يعطلها إطلاقاً ، لكن أصبحت إقامة الحد في زمن المجاعة تكتنفها شبهة ، لأنّ في الناس جوعًا ، فإذا كان حول السارق شبهة في سرقته ، كأنْ سرق من مالٍ يظن أن له فيه حقاً فلا يجوز قطع يده، أو سرق من مال فيه شبهة فلا يجوز قطع يده فيه ، سيدنا عمر لم يعطل قطع يد السارق لكن يقول : لأن أعطل الحدود في الشبهات خيرٌ من أن أقيمها في الشبهات .
فهي مقولة في القضاء مشهورة ، الخطأ في العفو خير من الخطأ في الظلم ، حكمنا على شخص ظلماً عشر سنوات ، وهو بريء ، فلو عفونا عنه خطأً لكانَ أهونَ مِن أن نحكم عليه خطأً.
إنّ رجلاً له ابنة أصابت حداً من حدود الله ، فحينما وقعت في هذه المعصية التي توجب الحد ، أخذت شفرةً لتذبح نفسها ، قال : فأدركناها ، وقد قطعت بعض أوداجها فداويناها حتى برئت ، ثم إنها تابـت بعدها توبةً حسنة ، وهي اليوم تخطب إلى قوم ، فسأل أخوها سيدَنا عمر : أفأخبرهم بالذي كان ؟ .
إنها وقعت في خطأ يوجب الحد ، وحاولت الانتحار ، ونحن أسعفناها ، وتابت توبة نصوحًا ، والآن خطبـت لرجـل: أنخبرهم بالذي كان منها ؟ فيجيبه عمر : " أتعمد إلى ما ستره الله فتبديه، والله لئن أخبرت بها أحداً من الناس لأجعلنكم نكالاً لأهل الأمصار ، اذهب وزوجها زواج العفيفة المسلمة ".
مرة خرج في إحدى الليالي يتفقد أحوال أهل المدينة فسمع سيدةً تشكو بثها وحزنها ، وتقول شعراً :
تطاول هذا الليل وازور جانبه ... وليس إلى جنبي حليلٌ ألاعبه
فوالله لولا الله لا ربَّ غيـره ... لزلزل من هذا السرير جوانبه
مخافة ربي والحياء يصدنـي ... وأكرم بعلي ، أن تنال ركائبه
ثم قالت : أهكذا يهون على عمر وحشتنا وغيبة رجلنا عنا ؟ سيدنا عمر بحث ودقق وحقق ، فإذا هذه المرأةٌ زوجها في الجهاد ، وعند الصباح يذهب عمر إلى ابنته حفصة ويسألها : " يا بنيتي كم تصبر المرأة عن زوجها ؟ فتجيبه : تصبر شهراً وشهرين وثلاثة وينفد مع الشهر الرابع صبرها، فيسن من فوره قانوناً بأن لا يغيب في الجهاد جنديٌ متزوج أكثر من أربعة أشهر ، ويرسل إلى زوج السيدة يستدعيه من فوره .
مرة سمع عمرُ شيخًا كبيرًا يبكي في شعر جزل ، يبكي ولدَه الوحيد الذي طال غيابه عنه ، سأل عنه عمر ، فتبين أنه في الجهاد ، فاستدعاه على الفور ، ثم سَنَّ قانوناً : ألاّ يخرج إلى الجهاد مَن له أبوان كبيران ، إلا بعد إذنهما ، ألم يقل له النبي : ففيهما فجاهد ، فبر الوالدين مثل الجهاد تماماً.
ومع أن الاعتراف سيد الأدلة ، لكن سيدنا عمر قال مرة : ليس الرجل بمأمونٍ على نفسه إن أجعته ، أو أخفته ، أو حبسته أن يقِر على نفسه زوراً.
له اجتهاد خطير جداً ، فسيدنا عمـر لا يرى أن يقـام حد قطع اليد في أثناء المعركة ، طبعاً اقتباساً من رسول الله ، لو أردت أن تعاقب هذا الجندي في ساحة المعركة ، فأهون له أن ينضم إلى الأعداء ويرتد ، وينقل أسرار المسلمين إلى الأعداء ، لذلك لا يجوز أن يقام الحد ، ولا سيما قطع يد السارق في أثناء الحرب ، فإذا تخطى هذه الأمتار ، وانتقل إلى صف العدو لم يعد معرّضًا لقطع يده ، لكن مقابل هذا الالتجاء يفضي بالأسرار ، فلذلك يفقد قطع اليد حكمته في الحرب ، وهذا اجتهاد سليم وصحيح .
قد نأخذ المذنـب بذنبه ، لكن أحياناً هناك خلفيات للذنب ، ودوافع كبيرة ، مرة جيء بغلمان صغار سرقوا ناقة رجل من مزينة ، فلا يكاد يراهم صُفر الوجوه ، ضامري الأجسام حتى يسأل : من سيد هؤلاء ، فقالوا : فلان ، قال : إلي به ، فلما جاء سيدهم قال : أنت سيد هؤلاء ؟ قال : نعم ، قال : كدت أنزل بهما العقاب لولا ما أعلمه من أنكم تدئبونهم وتجيعونهم ، لقد جاعوا فسرقوا ، ولن ينزل العقاب إلا بك ، ثم سأل صاحب الناقة : يا مزني كم تساوي ناقتك ؟ قال : أربعمائة دينار ، قال عمر : اذهب فأعطه ثمانمائة .
له كلمة شهيرة قال : " لن يغير الذي وليت من خلافتي شيئاً من خلقي إنما العظمة لله وحده وليس للعباد منها شيء " ، العظمة لله وحده ، وليس للعباد منها شيء ، كلها لله ، ولو كنت خليفة عليكم ، إني عبدٌ من عبيد الله ، ولن تغيِّر الخلافة أخلاقي أبداً ، لأن العظمة لله وحده وللعباد ليس لهم منها شيء ، ما هذا الكلام ؟ كأننا أمام أساطير.
قال مرةً: " من أراد أن يسأل عن القرآن فليأت أبي بن كعب ، من أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت ، من أراد أن يسأل عن الفقه فليأت معاذ بن جبل ، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني ، فإن الله جعلني له خازناً وقاسماً " ، أي تعالوا إليَّ .
مرةً قال لبعض ولاته : " بلغني أنه فشت لك فاشية في هيأتك ولباسك ومطعمك ومركبك ليست للمسلمين ، فإياك يا عبد الله أن تكون كالبهيمة مرَّت بوادٍ خصيب فجعلت همها في السمن وفي السمن حتفها " .
الإنسان أحياناً يكون حتفه في مكاسبه ، من أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه أخذ من حتفه وهو لا يشعر ، خذ من الدنيا ما شئت ، وخذ بقدرها هماً ، فالإنسان يجب أن يعتدل في مطالبه ، وإلا كان عندئذٍ ضحيةَ مطالبه .
ومرة قال : " لي عند كل خائنٍ أمينان ؛ الماء والطين" .
إذا كان للإنسان كسب غير مشروع ، فهذا الكسب لا بدَّ أن يظهر ببناء يبنيه " لي عند كل خائنٍ أمينان ؛ الماء والطين" .
مرة رأى امرأةً تبكي ميتاً بالأجرة يسمونها نائحة فقال : " إنها لا تبكي بشجونكم ، إنما تبكي بدراهمكم " .
مرة سأل أحد أولاد هرم بن سنان ، وهو رجل مدحه زهير بن أبي سلمى في الجاهلية مدحًا كبيرًا ، فقال عمر : " إن كان ليحسن فيكم القول ، فقال ابن هرم : ونحن والله إن كنا لنحسن له العطاء ، فقال عمر : لقد ذهب ما أعطيتموه وبقي ما أعطاكم" .
الذي أخذه منكم صرفه وانتهى ، لكن بقيت لكم هذه السمعة الطيبة في شعره فأنتم أربح منه ... والحمد لله رب العالمين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
جانبٍ مهم من جوانب شخصية الفاروق عمر رضي الله عنه ، ألا وهو تألُّق ذهنه ، وحدّة فهمه ، وصدق فراسته .
والمؤمن أيها الإخوة بشكلٍ أو بآخر يمثِّل هذا الدين ، ولا يستطيع المؤمن نشرَ هذا الحق إلا إذا كان على جانبٍ من الإدراك العميق ، والفهم الحاد ، لذلك : " ما اتخذ الله ولياً جاهلاً ، ولو اتخذه لعلَّمه " .
المؤمن لديه حجة ، عنده منطق ، معه دليل ، معه برهان ، إدراكه دقيق ، فهمه عميق ، تصوُّره صحيح ، رؤيته ثاقبة ، قراره حكيم ، هذا الجانب العقلي للمؤمن ، لأن المؤمن كما تعلمون شخصيةٌ متميِّزة ، فيه جانب نفسي أخلاقي ، وفيه جانب سلوكي بنَّاء ، وفيه جانب عقلي دقيق .
فسيدنا عمر مثَّل شخصيَّته ، أو جانبه الإدراكي بكلمةٍ رائعة ، فقال : "لست بالخِب ، ولا الخَبُّ يخدعني " ، يعني ذكاؤه ليس شيطانياً ، ولا عدوانياً ، ولا استغلالياً ، ولا انتهازياً ، ولا وصولياً ، هناك أذكياء يستغلون ذكاءهم لمآربهم الشخصية ، ولمكاسبهم الدنيوية ، فذكاؤه ليس عدوانيًّا ، ولا ذكاءً شيطانيًّا ، ولا ذكاءً انتهازيًّا ، ولا ذكاءً وصوليًّا ، ولا ذكاءً مبنيًّا على المصلحة ، ولكنه ذكاءٌ رحماني ، فهو ليس من الغباء حيث يخدعه الخِب ، وليس من الخُبث حيث يخدع ، لا يَخْدَع ولا يُخْدَع ، ليس عدوانياً فلا يَخْدَع ، وليس ساذجاً فيُخْدَع ، هذا الموقف المثالي ، فما من عبارةٍ أدق وأوضح من هذه العبارة "لست بالخِب ولا الخِبُّ يخدعني" ، وينبغي على كل مؤمنْ أن يكون في هذا المستوى .
السيدة عائشـة رضي الله عنها وصفته مرةً فقالت : " كان والله أحوزياً( أي سريع الإدراك حاد الخاطر ) نسيج وحده ، قد أعدَّ للأمور أقرانها" ، أحياناً يجد الإنسان نفسَه في ظرف ، وما هيّأ نفسه لهذا الظرف ، ما أعدَّ لهذا الظرف ما يكافئُه ، فالموفَّقون في الحياة ، المتفوقون ، العقلاء ، الأفذاذ هم الذين يعدّون للأشياء أقرانها ، للملمات ما يكافئُها ، للمستقبل ما يغطيه ، إذاً السيدة عائشة وصفته ، فقالت : " كان والله أحوزياً ، نسيج وحده ، قد أعدَّ للأمور أقرانها" .
ويقول عنه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : " كان عمر أعلمنا بكتاب الله وأفقهنا في دين الله"، سيدنا عمر قمة المجتمع الإسلامي ؛ فهو حاكم ، وفي الوقت نفسه كان أعلمنا بكتاب الله ، وأفقهنا في دين الله ، أما النبي عليه الصلاة والسلام قال : " إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبِه " .
هذه شهادة ، إذا شهد لك النبي فهذه أعظم شهادة ، عندما يكون الإنسان مؤمنًا ، ويكون تلميذًا للنبي عليه الصلاة والسلام فهذه أكبر شهادة هذه يحوزها .
عندنا في السيرة شيء اسمه موافقات عمر ، فكان سيدنا عمر يتمنى شيئًا فينزل به قرآن ، فتمنياته أوّلاً ، واستشرافه لبعض الأشياء ، ثم يأتي الوحي ليؤكدها ، وهذه من خصائص هذا الصحابي الجليل ، لذلك قالوا : سيدنا عمر له موافقات ، فمرة قال للنبي عليه الصلاة والسلام : " يا رسول الله أليس هذا مقام إبراهيم أبينا ؟ قال : نعم ، قال : لو اتخذناه مصلىً ، فما هي إلا أيام حتى جاء الوحي بالآية الكريمة :
( سورة : البقرة آية " 125 " )
كذلك تمنى أن يأتي تشريع ينظم علاقة الأبناء بالآباء في الدخول على آبائهم وأمهاتهم ، فنزلت الآيات تبيِّن أدب الابن في الدخول على أبيه وأمه :
( سورة : النور : آية " 58 " )
فكلما تمنى شيئاً يأتي الوحي مؤكداً له ، هذا من صدقه مع الله ومن شدة إخلاصه ، من أجل هذا قال النبي عليه الصلاة والسلام :" إني لا أدري مقامي فيكم فاقتدوا باللذين من بعدي أبي بكرٍ وعمر " .
أي أصبح كلام سيدنا عمـر واجتهاده من السنة ، والحدـيث الأشهر من ذلك :" عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي الهادين المهديين عضوا عليها بالنواجذ "
إذاً إذا اجتهد سيدنا عمـر اجتهادًا ، فاجتهاده هذا يضاف إلى السنة ، وملحـق بها ، لعظم هذا الصحابي الجليل .
كان إدراكه عميقًا جداً قال : " ما من أحدٍ عنده نعمة إلا وجدت له حاسداً ، ولو كان المرء أقوم من القِدح لوجدت له غامزاً " ، أي من المستحيل ألاّ يكون لك خصم ، لو كان المرء أقوم من القِدح أي السهم ، فالمستقيم استقامة تامة ، لو وضعته على عينك لا ترى اعوجاجا ، المستقيم استقامة تامة لو كان المرء أقوم من القدح لوجدت له غامزاً يطعن فيه ، ومن يَبخَس فيه ، فأنت وطِّن نفسك ، وارتحْ ، فلا بدَّ لك من خصومة ، لا بد لك من حُسَّاد ، حتى إن سيدنا موسى في المناجاة قال : يا ربي لا تبقي لي عدواً قال له : هذه ليست لي يا موسى ، أفليس أعداء ؟ فتطمع ألاّ يكون لك أي عدو ، هذا الطمع في غير محله ، لك عدو ولك خصم ولك حاسد ولك مبغض ولك من يطعن بعلمك ، ولك من يبخِّس عملك ولك من يستهزئ بكلامك هذا شيء طبيعي جداً من أجل أن يكثر أجرك، واعلمْ أن النبي له أعداء .
وله ميزان آخر قال:" أحبكم إلينا قبل أن نراكم أحسنكم سيرةً ، فإذا تكلمتم فأبينكم منطقاً ، فإذا اختبرناكم فأحسنكم فعلاً".
وكائن ترى من صامتٍ لك معجبٍ زيادته أو نقصه في التـــــكلُّمِ
والقصة المشهورة جداً عن سيدنا عمر ، أنه طلب من شخص أن يأتي بمن يعرفه ، قال له : " يا هذا إني لا أعرفك ، ولكنه دقيق جداً ، قال : ولا يضرك أني لا أعرفك " ، مقامك عند الله محفوظ .
ولما جاءه رسول من القادسية يخبره أنَّ خلقًا كثيرًا مات فيها قال له : من هم؟ قال له : إنك لا تعرفهم ، فبكى عمر ، وقال : وما ضرهم أني لا أعرفهم إذا كان الله يعرفهم" ، فمن أنا ؟!.
فلما قال للإنسان : " يا هذا إني لا أعرفك قال : ولا يضرك أني لا أعرفك" .
أنا عبد مثلك ، فلا أقدِّم ، ولا أؤخِّر ، قد تكون أفضل مني ، فإذا لم تعرف إنسانًا فهذا لا يقدح في مكانته ، وإذا دخلت إلى مكان ، ولم يعرفوك ، فلا تقل : لم يعرفوني ، ولم يوجهوني ، ليست هذه مشكلة ، مقامك عند الله محفوظ ، فالأتقياء الأخفياء أثنى عليهم النبي : الذين إذا حضروا لم يعرفوا، وإذا غابوا لم يفتقدوا ، قال له : "يا هذا إني لا أعرفك ، ولا يضرك أني لا أعرفك"، ائت بمن يعرفك ، فجاءه بشخص قال له : هل تعرفه ؟ قال له : نعم أعرفه ، قال له : هل سافرت معه؟ قال له : لا ، هل جاورته ؟ قال له : لا ، هل حاككته بالدرهم والدينار؟ قال له : لا ، قال له : أنت لا تعرفه".
فالإنسان يُعرف بالسفر ، وسمِّي السفر سفراً لأنه يسفر عن أخلاق الرجال ، يُعرف بالتعامل المادي ، يُعرف بالمجاورة ، أما بالشكل ، وبالحديث ، وبالمظهر العام ، فهذا لا يكفي لمعرفة الرجل .
مرة تحدث أصحابه أمامه عن رجل وأثنوا عليه ثناءً كبيراً ، وممّا أثنوا عليه أنه لا يعرف الشر أبداً ، فقال عمر : ذلك أجدر أن يقع فيه .
يقول لك : مثل المصحف المطوي ، إذا كان واحد يجهل الشر فهو أقرب الناس للوقوع فيه ، أنا أريد شخصًا يعرف الشر ، ولا يفعله ، فهو محصن ، فلما قالوا : إنه لا يعرف الشر أبداً ، قال عمر : ذلك أجدر أن يقع فيه ، أريد إنساناً يعرف الشرَّين ، ويفرق بينهما ، ويختار أهونهما ".
له رأي دقيق جداً ، مرة سل : أيهما أفضل ؛ رجل لا يأثم ، لأن نفسه لا تشتهي الإثم ، أم رجل تشتهي نفسه الإثم ، ولا يأثم ؟ فسيدنا عمر رأيه أنّ الذين يشتهون المعصية ، ولا يعملون بها هم الأفضل ، معنى ذلك أن الإنسان إذا كان في ريعان الشباب ، وعملُه في الأسواق ، وغَضَّ بصره فهذا له أجر كبير ، من السهل أن تعتزل الناس ، وأن تقعد في بيت في رأس الجبل ، ليس لك أيَّة مخالفة ، لكن أن يكون لك عمل في سوق تجاري : صِدْق ، أمانة ، استقامة ، غضُّ بصر ، الصلاة في وقتها ، فهذه بطولة ، من البطولة أن تقيم أمر الله وأنت تشتهي المعصية ، هذه المجاهدة ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام :" رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ، جهاد النفس والهوى".
أحياناً كان يستفَتى في قضيـة يعطي فيها رأيـه ، وحين استفتي في قضية مشابهة أعطي رأيًا آخر، فلما قيل له : إن لك في هذا اجتهادين متناقضين ، فقال سيدنا عمر : ذاك على ما قضينا ، وهذا على ما نقضي ، أي أن المشكلة واحدة ، ولكن لها ظروف مختلفة .
له اجتهاد دقيق جداً في سهم المؤلفة قلوبهم الذي يُؤدَّى من الزكاة ، فقد أبطله في حياته ، الإسلام كان ضعيفًا ، وكان بحاجة إلى تأييد الأقوياء ، فكان هؤلاء الذين سماهم القرآنُ المؤلفةَ قلوبهم نعطيهم ، والإسلام ضعيف ، أما وقد نصر الله الإسلام ، وقويتْ شكيمته ، وأصبح قوياً ، فالآن هذا السهم ليس له وجود ، هذا اجتهاد سيدنا عمر ، قال : " لقد كان رسول الله يعطيهم ، والإسلام يومئذٍ ضعيف ، أما اليوم فقد أعز الله دينه ، وأعلى كلمته ، فمن شاء فليؤمن ، ومن شاء فليكفر ، ولا يتسع هذا الدين إلا من يدخله راغباً مؤمنا " ، فمع ورعه الشديد ، مع تقيده الشديد بالنص كان جريئاً في اجتهاده .
يروي البخاري ومسلم رضي الله عنها أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال :" بينما أنا نائمٌ إذ رأيت قدحاً ، أوتيت به فيه لبن ، فشربت منه حتى إني لأرى الريَّ يجري في أظفاري ( أي أن كل جسمه ارتوى بهذا اللبن ) ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب " .
زاد من الكأس شيء فأعطاه سيدَنا عمر ، فقال أصحاب النبي عليهم رضوان الله : فماذا أَوَلْتَه يا رسول الله ؟ قال : العلم ، هذا اللبن أَوَّلَه النبي بالعلم ، لأنه غذاء الإنسان ، فضلت فضلة من القَدح فأعطاها سيدَنا عمر ، هذا تأويل النبي للرؤيا التى رآها ، أي أن عمر عالم .
نحن نعرفه شديدًا جداً ، ولكن بقدر ما هو شديد فهو رحيم ، قال : جيء بمسلم ارتكب ما يوجب إقامة الحد عليه ، ويشهد ثلاثةٌ شهادةً تدينه ، ولم يبق إلا شهادة الرابع ، ثم يصير الحد عقاباً محتوماً ، يرسل عمر ، ويستدعي الشاهد الرابع ، ولا يكاد يراه مقبلاً حتى تأخذه رهبة ، وحينما تقترب خطاه ينظر أمير المؤمنين ويقول : أرى رجلاً أرجو ألا يفضح الله به واحداً من المسلمين ، يقدم الشاهد فيقول لعمر : لم أرَ شيئاً يوجب الحد ، يتنفس عمر الصعداء ، ويقول : الحمد لله رب العالمين .
مرة جاءه رجل يحمل بشرى ، أو ظنها بشرى ، قال له : رأيت فلاناً وفلانةً يتعانقان وراء النخيل ، فيمسك عمر بتلابيبه ، ويعلوه بمخفقته ، ويقول له بعد أن وسعه ضرباً : هلا سترت عليه، ورجوت له التوبة ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من ستر على أخيه ستره الله في الدنيا والآخرة .
كان سيدنا عمر يقول : " هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أخاً لكم زلَّ زلةً فسددوه ، كونوا عوناً له على الشيطان ، ولا تكونوا عوناً للشيطان عليه"
أنت وظيفتك أنْ تستر ، وظيفتك أن تخفف عن المؤمنين ، وظيفتك ألا تتبع عوراتهم .
له قول شهير قال :"لأن أُعَطِّل الحدود في الشبهات خيرٌ من أن أقيمها في الشبهات".
هناك أشخاص أصلحهم الله يظنون خطأً أن سيدنا عمر عطّل حدَّ قطع يد السارق ، لا إنه لم يعطلها إطلاقاً ، لكن أصبحت إقامة الحد في زمن المجاعة تكتنفها شبهة ، لأنّ في الناس جوعًا ، فإذا كان حول السارق شبهة في سرقته ، كأنْ سرق من مالٍ يظن أن له فيه حقاً فلا يجوز قطع يده، أو سرق من مال فيه شبهة فلا يجوز قطع يده فيه ، سيدنا عمر لم يعطل قطع يد السارق لكن يقول : لأن أعطل الحدود في الشبهات خيرٌ من أن أقيمها في الشبهات .
فهي مقولة في القضاء مشهورة ، الخطأ في العفو خير من الخطأ في الظلم ، حكمنا على شخص ظلماً عشر سنوات ، وهو بريء ، فلو عفونا عنه خطأً لكانَ أهونَ مِن أن نحكم عليه خطأً.
إنّ رجلاً له ابنة أصابت حداً من حدود الله ، فحينما وقعت في هذه المعصية التي توجب الحد ، أخذت شفرةً لتذبح نفسها ، قال : فأدركناها ، وقد قطعت بعض أوداجها فداويناها حتى برئت ، ثم إنها تابـت بعدها توبةً حسنة ، وهي اليوم تخطب إلى قوم ، فسأل أخوها سيدَنا عمر : أفأخبرهم بالذي كان ؟ .
إنها وقعت في خطأ يوجب الحد ، وحاولت الانتحار ، ونحن أسعفناها ، وتابت توبة نصوحًا ، والآن خطبـت لرجـل: أنخبرهم بالذي كان منها ؟ فيجيبه عمر : " أتعمد إلى ما ستره الله فتبديه، والله لئن أخبرت بها أحداً من الناس لأجعلنكم نكالاً لأهل الأمصار ، اذهب وزوجها زواج العفيفة المسلمة ".
مرة خرج في إحدى الليالي يتفقد أحوال أهل المدينة فسمع سيدةً تشكو بثها وحزنها ، وتقول شعراً :
تطاول هذا الليل وازور جانبه ... وليس إلى جنبي حليلٌ ألاعبه
فوالله لولا الله لا ربَّ غيـره ... لزلزل من هذا السرير جوانبه
مخافة ربي والحياء يصدنـي ... وأكرم بعلي ، أن تنال ركائبه
ثم قالت : أهكذا يهون على عمر وحشتنا وغيبة رجلنا عنا ؟ سيدنا عمر بحث ودقق وحقق ، فإذا هذه المرأةٌ زوجها في الجهاد ، وعند الصباح يذهب عمر إلى ابنته حفصة ويسألها : " يا بنيتي كم تصبر المرأة عن زوجها ؟ فتجيبه : تصبر شهراً وشهرين وثلاثة وينفد مع الشهر الرابع صبرها، فيسن من فوره قانوناً بأن لا يغيب في الجهاد جنديٌ متزوج أكثر من أربعة أشهر ، ويرسل إلى زوج السيدة يستدعيه من فوره .
مرة سمع عمرُ شيخًا كبيرًا يبكي في شعر جزل ، يبكي ولدَه الوحيد الذي طال غيابه عنه ، سأل عنه عمر ، فتبين أنه في الجهاد ، فاستدعاه على الفور ، ثم سَنَّ قانوناً : ألاّ يخرج إلى الجهاد مَن له أبوان كبيران ، إلا بعد إذنهما ، ألم يقل له النبي : ففيهما فجاهد ، فبر الوالدين مثل الجهاد تماماً.
ومع أن الاعتراف سيد الأدلة ، لكن سيدنا عمر قال مرة : ليس الرجل بمأمونٍ على نفسه إن أجعته ، أو أخفته ، أو حبسته أن يقِر على نفسه زوراً.
له اجتهاد خطير جداً ، فسيدنا عمـر لا يرى أن يقـام حد قطع اليد في أثناء المعركة ، طبعاً اقتباساً من رسول الله ، لو أردت أن تعاقب هذا الجندي في ساحة المعركة ، فأهون له أن ينضم إلى الأعداء ويرتد ، وينقل أسرار المسلمين إلى الأعداء ، لذلك لا يجوز أن يقام الحد ، ولا سيما قطع يد السارق في أثناء الحرب ، فإذا تخطى هذه الأمتار ، وانتقل إلى صف العدو لم يعد معرّضًا لقطع يده ، لكن مقابل هذا الالتجاء يفضي بالأسرار ، فلذلك يفقد قطع اليد حكمته في الحرب ، وهذا اجتهاد سليم وصحيح .
قد نأخذ المذنـب بذنبه ، لكن أحياناً هناك خلفيات للذنب ، ودوافع كبيرة ، مرة جيء بغلمان صغار سرقوا ناقة رجل من مزينة ، فلا يكاد يراهم صُفر الوجوه ، ضامري الأجسام حتى يسأل : من سيد هؤلاء ، فقالوا : فلان ، قال : إلي به ، فلما جاء سيدهم قال : أنت سيد هؤلاء ؟ قال : نعم ، قال : كدت أنزل بهما العقاب لولا ما أعلمه من أنكم تدئبونهم وتجيعونهم ، لقد جاعوا فسرقوا ، ولن ينزل العقاب إلا بك ، ثم سأل صاحب الناقة : يا مزني كم تساوي ناقتك ؟ قال : أربعمائة دينار ، قال عمر : اذهب فأعطه ثمانمائة .
له كلمة شهيرة قال : " لن يغير الذي وليت من خلافتي شيئاً من خلقي إنما العظمة لله وحده وليس للعباد منها شيء " ، العظمة لله وحده ، وليس للعباد منها شيء ، كلها لله ، ولو كنت خليفة عليكم ، إني عبدٌ من عبيد الله ، ولن تغيِّر الخلافة أخلاقي أبداً ، لأن العظمة لله وحده وللعباد ليس لهم منها شيء ، ما هذا الكلام ؟ كأننا أمام أساطير.
قال مرةً: " من أراد أن يسأل عن القرآن فليأت أبي بن كعب ، من أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت ، من أراد أن يسأل عن الفقه فليأت معاذ بن جبل ، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني ، فإن الله جعلني له خازناً وقاسماً " ، أي تعالوا إليَّ .
مرةً قال لبعض ولاته : " بلغني أنه فشت لك فاشية في هيأتك ولباسك ومطعمك ومركبك ليست للمسلمين ، فإياك يا عبد الله أن تكون كالبهيمة مرَّت بوادٍ خصيب فجعلت همها في السمن وفي السمن حتفها " .
الإنسان أحياناً يكون حتفه في مكاسبه ، من أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه أخذ من حتفه وهو لا يشعر ، خذ من الدنيا ما شئت ، وخذ بقدرها هماً ، فالإنسان يجب أن يعتدل في مطالبه ، وإلا كان عندئذٍ ضحيةَ مطالبه .
ومرة قال : " لي عند كل خائنٍ أمينان ؛ الماء والطين" .
إذا كان للإنسان كسب غير مشروع ، فهذا الكسب لا بدَّ أن يظهر ببناء يبنيه " لي عند كل خائنٍ أمينان ؛ الماء والطين" .
مرة رأى امرأةً تبكي ميتاً بالأجرة يسمونها نائحة فقال : " إنها لا تبكي بشجونكم ، إنما تبكي بدراهمكم " .
مرة سأل أحد أولاد هرم بن سنان ، وهو رجل مدحه زهير بن أبي سلمى في الجاهلية مدحًا كبيرًا ، فقال عمر : " إن كان ليحسن فيكم القول ، فقال ابن هرم : ونحن والله إن كنا لنحسن له العطاء ، فقال عمر : لقد ذهب ما أعطيتموه وبقي ما أعطاكم" .
الذي أخذه منكم صرفه وانتهى ، لكن بقيت لكم هذه السمعة الطيبة في شعره فأنتم أربح منه ... والحمد لله رب العالمين
الخميس أكتوبر 31, 2013 11:15 pm من طرف ستيفن هوبكنك
» رمضان مبارك
الإثنين يوليو 30, 2012 3:32 pm من طرف طالبة الفيزياء
» اقتراح للادارة !!
الثلاثاء يوليو 03, 2012 4:31 pm من طرف زهرة العلوم
» سلام خاص الى استاذي الغالي
الإثنين يوليو 02, 2012 4:12 pm من طرف زهرة العلوم
» نظائر الكلور
الإثنين يوليو 02, 2012 4:08 pm من طرف زهرة العلوم
» الصداقة الحقيقية
الإثنين يوليو 02, 2012 4:06 pm من طرف زهرة العلوم
» الابتسامة وفوائدها
الإثنين يوليو 02, 2012 3:58 pm من طرف زهرة العلوم
» العمليات الكيميائية لاستخلاص غاز الكلور
الإثنين يوليو 02, 2012 3:55 pm من طرف زهرة العلوم
» هل تعلم
الإثنين يوليو 02, 2012 3:45 pm من طرف زهرة العلوم